ياسين الغماري كاتب وروائي تونسي

Ma photo
ياسين الغُماري هو روائي وأديب تونسي وُلد في سوسة في 22 فبراير. يُعتبر أحد الأسماء الشابة الصاعدة في المشهد الأدبي العربي. بجانب عمله الروائي، يكتب الغُماري المقالات السياسية ويُشارك بنشاط في الشأن الثقافي. يحمل عضوية في المؤسّسة التونسيّة لحقوق المؤلّف والحقوق المجاورة التابعة لوزارة الثقافة التونسية

dimanche 20 octobre 2024


ياسين الغماري يُلقي بظلال الرأسمالية في خنق عوالم الرأسمالية



 ثمّة فَلْتَة في العالم، لكنّنا بَسُرنا بمعرفتها وبالتأكيد نتجاهلها تجاهلًا كاملًا، تكمن في النّظام الّذي أوجبَ ديمومة الرأسماليّة المُعادية للإنسانيّة والّذي يزيد الطّين بلّة، وكل ما في وسعنا صنيعه هو التلميح سرًّا إلى مغبّة النّظام ومأزقه الكبير، الذي وصفه بوش الثاني أنّه مشكلة صالحة لكلّ مكان وزمان تشمل الأفراد والجماعات وجميع البلدان. أيعقل أن نسعى إلى طمس مَغَبَّة النّظام دون الإِسْتِعاضَة بأساليب أخرى؟ لأيّ شيئ تُعاضد بُلداننا هكذا نظام يُجرّدنا من أخلاقنا الانسانيّة وهي الّتي تصيح بصوت همس العدل والمساواة والحُريّة؟ لعلّ لكلّ منّا سبيله وغايته في الحياة، ولعلّ ضَرُورِيّات حُكوماتنا-في أيّامنا هاته-هو حراسة مصالح أباطرة الدولارات وبارونات الاقتصاد الفاسد


كتب الصحفي والنّاشر الأمريكي هنري لوس سنة 1941 في مجلّة لايف التابعة لمجلّات تايم: "علينا أن نقبل بشكل كامل واجبنا وفرصتنا كأقوى دولة في العالم وبناء عليه، أن نفرض على العالم نفوذنا لأي غرض نختاره وبأي طريقة نراها مناسبة"  


وبناءً على ما جاء، لعلّ ما ورد آنفًا ينقل واقعنا ونظامنا الراهن الّذي يظهر تفضيله بتعسّف لفئة رسميّة وسياسة تحكمنا كُتِبَ لها النّجاح، غايتها تحقيق الثروة الخاصّة بشكلٍ غير محسوس على حساب فئة واسعة وهي العامّة بشكلٍ آشب. وأن يؤسّسوا عاصمتهم في كلّ مكان بُغية الربح، والأمر واضحًا وضوح الشمس. النّظام بأسره قد سَطَّرَ حقبة مخيفة معتمدة لتلبية حاجيات رؤوس الأموال، مرة تلو الأُخرى، دون غيرهم. يُعدّ الاقتصاد الجديد في القرن العشرين تسويقًا كاذبًا في تحقيق العدالة الاجتماعيّة والعدالة الماليّة، فضلًا عن وعود الخير، فهو لم يكن إلّا وُصْلَة أخرى لخنق الانسانيّة وخلق المخاطر على قدم وساق، وبالتّالي خان السّلم الاقتصادي عن طريق دمج التجبّر المالي بالتجبّر المعلوماتي بالاستعباد الحديث. أصبح رأس المال هي المتحكّم الوحيد في السياسات والقرارات والقوانين، أمّا الاعلام فهو مموّل منهم. في حين أنّ أحوال العامة تتدهور، تزدهر أحوال من يحتقروننا من ناحية أُخرى.


النموذج الرأسمالي الاقتصادي يستند إلى نظام العبوديّة. انطلقت سوق العبيد بشكلٍ أرقّ وأنظف مع بزوغ القرن العشرين. في العصور السالفة، كان المستعمرون يسيطرون على المواطنين الأصليين للبلاد ويستعبدون أولئك الّذين لم يستطيعوا سداد ديونهم المتراكمة عليهم. وكان يُستغنى عن المرضى وذوي الإعاقة سواء بالقتل أو تركهم في الأدغال أو الرمي بالبحر. والعقود الأولى من القرن السابع عشر، خيرُ دليل على ما كان يحدث ولاسيما فيما يتعلق بأمريكا، وتفاعل المستعمرين الأمريكيين مع السكّان الأصليّين للقارّة الأمريكيّة، الهُنود الحمر، ممّا أفقد أي خطاب أخلاقي بالتكلّم عن حقوق الانسان في حين كانت الحضارات تُلقي نصوصًا أنّ النّاس سواسية. التاريخ ينبض بثورات الفقراء ضد سلطة رؤوس الأموال، ولعلّ التاريخ يُكرّر نفسه بغض النظر عن الزمان والمكان، وهنا نخلّص إلى القول إنّ العيب ينسب إلى هذا النّظام المنحاز-بلا شك-لأرسامليو العالم، حيث يبدو أنّ القّوة والكلمة والسلطة وحتّى أُذُن الاستماع، تُمنح فقط لأولئك الّذين يحملون مفاتيح الجاه. النّظام ثابت لا يسقط لكن أصحابه هم فقط من يتغيّرون.


بالرجوع إلى منظومة قرون الزّمان الماضية، إلى نظام إقراض المركزي للمؤسّسات الماليّة منذ النّصف الثاني من القرن العشرين أنّ الجزء الأكبر من الدّين مُخصّصًا-بالدّرجة الأولى-لسداد أثمان فائدة القرض، ليطوّع نفسه، تدريجياً، إلى تكبيل العميل أو الحريف إلى نهاية بعيدة. ربما تنعكس رؤية الرأسماليّة على أنّ قيودها القديمة نعرفها، وقيودها الجديدة هي نفسها، تبقى محض امتداد للقيود السّالفة. مكان أن يكون هنالك نظام مالي ديمقراطي يعزز من فرص الإقراض الحكومي للشعب بما أنّ الحكومة نفسها تمشي مشية واحدة بإقراض المال لأصحاب البنوك-في كثير من الأحيان-بتجاهلٍ صارخ للضّمانات وبفوائد مخفّضة، لإنقاذهم. ينجم عن هذا-في كلّ الحالات- عدم إيفاء أصحاب الثروات على سداد القرض، وهُنا نتبيّن أنّ الحكومة نفسها، في كلّ زمان، في غاية الانحياز والاضطهاد، لا تعنى إلّا بمصالح أرباب المال ضاربة عرض الحائط على تحسين أوضاع حياة مواطنينها. ما عاد يهم من يحكم أي دولة، بل من يملك الثروة ويُسيطر عليها

أعقب عن الرأسماليّة ثقافة شديدة العداء لكلّ ما هو ديمقراطي وإنسانيّ، ثقافة ممنهجة لخدمة الأهواء، وتُشير أنّ الحياة الحقّة هي حياة الاستهلاك الكبير والبضاعة الفاخرة لتلمّس السعادة والنّشوة المرجوّة. لو تأمّل أحدنا حالنا سيسلط أول أسئلته على أصل تلك القوانين العشوائية؟ ولأي شيئ وضعوها؟ وما طائلهم من كلّ هذا؟ كلّ هاته التساؤلات خدمت الرأسماليّة بجعلها فاقدة للمنطق، ومنفيّة الاجابة. إذ يتمنى أحدنا أن يغيّر هذا العالم الشبيه بالجحيم المترامي القذائف إلى عالم آخر أقلّ حدّة وأكثر سلاسة. بمنظوره الخاصّ رسم كارل ماركس صورة حزينة للنّظام الرأسمالي الّذي يذهب بالانسان إلى الضياع، يُفقده هويته، ويُحطّم قيمته الحقيقية الإنسانية، يُحوّل الانسان إلى ماكينة خالصة لتحقيق غاية الطبقة البرجوازية الجشعة. من هذا الاستغلال الجشعي، ينبثق التفاوت الطّبقي، حيث يستخدم شخصًا ما، شخصٌ آخر من أجل زيادة الثروة، دون مراعاة لكرامته الإنسانية، وبالتالي يشتدّ الصّراع الاجتماعيّ

الرأسماليّة تُناشد استعمار المستثمرين للبلدان الخَاذِلة اقتصاديًّا، عن طريق تِشْيِيد سَطْوَة اقتصاديّة وسياسيّة، يتمثّل هدفها في التَفَرُّد على الموارد الطبيعيّة غير المتجدّدة مثل النّفط والمعادن، تسيير الأسواق، قَيَادَة الاقتصادات بما يتماشى مع مصالحهم، تمارس الضغط السياسي لتَعَهُّد دَوام تلك المكاسب. إنّ جذب المستثمرين المسؤولين اجتماعياً بدلاً من استقطاب المستثمرين غير المسؤولين، هو ضرورة مُلحّة. حاجتنا إلى قيمة إنسانيّة مضافة أكبر من قدرتنا على معالجة المزيد من المشكلات البشريّة والبيئيّة. لا ندع حاجتنا لخلق وظائف بأجور رخيصة-ممّا يعني استعبادنا-تثني عن التفكير في العواقب الوخيمة للمصانع المحليّة والعالميّة. إنّ جُنونهم المطلق، لتحقيق الثراء الفاحش، على حسابنا، فيه هلاكنا. بالاستثمار، نرفع الإنسان ونخلق السّلام له، ما أمكن، بدلاً من تدميره. فلا حاجة لنا بمستثمر لا يحترم أي فرد منّا، ولا حتّى أرضنا. الإقتصاد الّذي يقودنا إلى تعاستنا لا نُريده. يمكننا الخروج من أزمتنا الاقتصادية ونحقّق عدالتنا الاجتماعيّة بمفردنا وبطرق آمنة

 


ياسين الغماري يُعيد إحياء قضيّة التشغيل عبر المناولة في تونس



كلّ شيء مظلم في سياسات التشغيل في تونس، وكل ما هو مظلم لا ينبغي كشفه، أو حتى بقعة من الضوء لا يجب أن تسقط عليه. مثلما هنالك مناطق يُحظر دخولها، هنالك أسرار يُحظر بثّها. ومن بين هاته الأسرار تتجلّى ظاهرة التشغيل عن طريق المناولة في تونس الّتي كانت تُتناول وراء ستائر الظلّ كلّما تناقلتها الأحاديث.

استقطبت ظاهر العمل بالمناولة اهتمام الشركات الكبرى في تونس، ولاسيّما البنوك التونسيّة، مثل بنك تونس العربي الدّولي المعروف اختصارًا بـ “بيات”، الّذيُ يُعتبر رائدًا في شمال افريقيا. يُشير هذا المصطلح إلى طريقة شكل الانتداب-بعقود مؤقتة وظروف عمل قاسيّة وأجور مُتدنيّة، في إطار قانوني مُحكم-الّذي يتمّ عبر شركات خارجيّة وسيطة متخصّصة في تقديم خدمات الموارد البشريّة، ممّا يُقيّض للبنوك من زيادة الربحية دون تقديم أي واجب بتأمين ظروف عمل منصفة. عندما شرعتُ في تدريب إنهاء الدروس الجامعيّة في تونس العربي الدّولي  أثناء  مرحلة الماجستير سنة 2021، لم يخطر ببالي أنّ الموظفين الشباب ينتسبون إلى الشركة المنتدبة الوسيطة “آديكو” وليس للبنك نفسه. كان الموظفون الشباب في البنك مثل الأبقار، أدناهم مرتبة، يحلبهم كبار المسؤولين بكلّ ما أمكن من انتفاع ودون أن يجنوا ما يُثمّنهم. مدعاة لضغوط وفي  اعتياصات نفسيّة. لديهم قُصور في العزو إلى شركتهم وهم على تأهّب لمفارقة عملهم حال حيازتهم على عرض أفضل. تعتمد الشركة على نشل أحلام الشباب وطاقتهم وأساليب قمعيّة أخرى. كرامتهم مسحوقة. ملطخين بعطر المهانة، وحتّى أثمن العطور لا يُخفي ما يُمارس ضدّهم

يُمارس المسؤولون على الموظفين المنتدبين قوّة الترهيب. لأنّ الخوف يجعل النّاس خاضعين. إنّ للسلطة المطلقة مغبّة التسلّط. يصرخ المسؤولون متى شاءوا ويُقابلون بالصّمت. كان الصّمت لحافهم. أكان الصمت؟ الأرجح أنّه الخنوع من جرّاء قوانين المشغل تحت صمت الدولة. الخُنوع ديمومة وظيفتهم ومواصلة تلقي راتبهم. عادة مُثيرة أن يجدوا أنفسهم مدعاة لوابل من الاذلال، وحتى المزيد من الاذلال. كرامتهم مسحوقة. يُهانون وينصرفون إلى العمل من أجل لقمة العيش. ثمّة قاعدة توحدهم ألا وهي ألّا يتذمروا، وألا يُعارضوا، وألّا يطلبوا أدنى طلب. أثناء فترة تدريبي كنتُ أتخيّل أنّ موظفي البنك، يكسرون جدران زنزانتهم بجماع أيديهم، ويتوسلون من أجل الحرية.

أقرّت لي موظفة بالبنك اسمها “أميرة” أنّهم محض بيادق يعملون بالمناولة منذ ثلاث سنوات. ينتمون إلى وكالة مؤقتة تُمارس الرق الحديث وتُسمّى “آديكو”، مسؤول عنها مهدي العيادي في تونس. الشائعات تقول أنّه يُساهم فيها في تونس أرباب البنك كذلك على غرار مروان المبروك وشقيقه اسماعيل المبروك. وتقوم هاته الوكالة بتجنيد الشباب الطموحين برواتب شهريّة مخفضة دون وجود مساواة مع العاملين بالبنك، تتراوح هاته الأجور من ستمائة دينار (178 يورو)، وقد تصل إلى ثمانمائة دينار (238 يورو) إذا كنتَ حاصلا على الماجستير وعملتَ لمدّة ثلاث سنوات فما فوق. تقوم الوكالة بدفع الأجور بدلا من البنك نفسه وتحقّق ربحًا من خلال اقتطاع قسيمة من رواتب المنتدبين. تنتدبُ الوكالة طلاّبًا من جامعات النُّخبة ومن عائلات فقيرة ومُتوسّطة الدخل لاِسْتِرْقَاقهم ورميهم في عامهم الرابع. شعارها التخلّي عن الأحلام والقيم. أهدافها رفع أرباح المستثمرين باستغلال مُوظّفيها. كل تلك الشياكة والأصالة ليست إلّا زيفًا. إنّهم ليسوا بشرًا، وإنّما حيوانات مهضومة الحُقوق. لا يستمعون إلى هموهم اليوميّة. دخلهم بالكاد يُغطّي نفقاتهم. لا يُغلق البنك أبوابه أبدًا من السّاعة الثامنة صباحًا حتّى السّاعة الرابعة والنّصف مساءً. يُغادرون البنك السّاعة السابعة والنّصف ليلا أو حتى الثامنة ليلا. إنّهم لا يأخذون فاصلًا كما كِبار الموظّفين الّذين ينتمون إلى البنك. إنّها تنوب البعض أماكنهم في العمل ليتناولوا الغداء. يعملون ساعات زائدة غير مدفوعة الأجر خشية الطرد. إنّ حذاء الرئيس يُقدّر بنصف راتبها. وجودهم يخفتُ تدريجيًّا إلى أن أصبحوا مثل الأشباح. عبيد القرون الوسطى يقبضون راتبًا أكثر منهم. أقراص تخفيف الألم ردّ فعلي على التوبيخ، والقمع، والألم، ولعله ارجاء الانتحار بنفسه، وعلى الرغم من تفكيرهم الدائم بالانتحار فإنّ البنك سيتصل بالشركة المنتدبة “آديكو” لاستبدالهم، وهم غافلين عن جنازتهم، بموظفين آخرين.

أُلغيت العبوديّة كجريمة شكلًا لكنّها حاضرة مضمونًا. المُوظّف في بنك تونس العربي الدّولي  لا يمارس الحُريّة، بل الخُضوع والطّاعة. ممّا يعني إِسْتِحْواذ شخص على آخر. الإنسان الّذي يجلس في قمّة هرم السلطة يحرم أولئك الّذين يجلسون أدناه لرفع من مردوديّة البنك. على حِساب انسانيّتهم. يُجرّد المسؤول العامل من صفاته ليتّخذ سِمة الرقيق. يُقنعه أنّه لا شيء. أمّا إذا حدث وقال “أنا إنسان” فإنّهم يتهدّدونه في الغُرف المظلمة بالبطالة والخصاصة والمرض إلى أن يعزف عن ثورته وينسى أنه خُلق كإنسان ويرجع إلى صفة لاشيئا. فرّقوهم إلى نصفين. نصف مالك للنّصف الآخر. شخص يستعمل شخص آخر. يأتي الاستعمال للأشياء وهم لا يبلغون ميزة الأشياء حتّى. يستقطعُ الموظفون المنتدبون إحدى عشرة ساعة من يومهم ليتزيّنوا بزيّ الرقيق لِقاء ستّمائة دينار (178 يورو) شهريًّا. لا بُدّ أن تظلّ القوانين على ما كانت. ألغى أحمد باي الأول العبوديّة في تونس في 6 سبتمبر 1841 لكنّ العبودية أخذت مُتَعَرِّجات أخرى أرقّ وأنظف. في غابر الزمن كان يُعرف العبد بشكله أمّا بعد ثورة الياسمين سنة 2011 فيُعرف العبد بمضمونه. رقيق الأمس يُباع بشكلٍ دائم أمّا رقيق اليوم فيُكترى لإحدى عشرة ساعة. كان هُنالك سوق للعبيد، اليوم يُوجد مكان عمل للعبيد. يتلاعبون بهم من خلال الخوف، فمن منهم لم يفهم ذلك بعد؟ إلّا من يتبّعون وصايا النّظام التونسيّ. يُشغّل البنك 700 موظّف شاب تونسيّ من خريجي الجامعات الرائدة من أصل 1800 طاقة عاملة التي تعتمد على المناولة. إنّها جريمة، الدولة التونسية صامتة عنها. ما يُخالف الفصول 28، 29، و30 من مجلة الشغل التي تنظم مجال المناولة في البلاد التونسيّة. تُوجّه الشركة المُنتدبة رسائل هاتفيّة إليهم تُنبّه الموظّفين المُتعاقدين من التورّط في الاضرابات إلا برضى المُشغّل.

في 26 جويلية 2021 تمّ توقيع اتفاقية لإنهاء العمل بنظام المناولة بحلول سبتمبر 2023 بعد التوصل إلى اتّفاق مع الجمعية المهنية للبنوك عقب اضراب دام يومين،  ومع ذلك ظل الوضع على حاله، وإنّما تفاقم سوءًا.

أصبح بنك تونس العربي الدّولي رائدًا في القطاع المصرفي التونسي، من حيث قيمة الأصول ورصيد السيولة والأموال الذاتية، ممّا فتح المجال لسائر البنوك التونسيّة، بما فيها الحكوميّة لتنتهج نفس المنهج في الانتدابات، حيث استعانت هاته البنوك بشركات المناولة-التي في تكاثر في تونس دون رقيب أو حسيب -بتوظيف آلاف التونسيين حديثي التخرّج من كليّات النُخبة بأجور متدنيّة تصل إلى ستّمائة دينار (178 يورو) شهريًّا للعمل لعدّة سنوات، في ظروف عمل مسمومة للغاية، وفي ظلّ استغلال فاحش، وكثيرًا ما يتمّ إنهاء عقودهم قبل نهاية عامهم الرابع، ممّا يعني قبل الحصول على الانتداب القانوني، بعد استنزاف قدراتهم العقلية والعلمية والبدنية، تحت صمت نقابة العمّال الّتي تُسبّق مصالحها على أي اعتبار والدولة التونسيّة المنفلتة مجملًا في هذا الشأن، بَيْدَ أنّ القانون التونسيّ يُحظر هاته الممارسات. وتُشير بعض المعطيات غير الرسميّة إلى أنّ عدّد العمال بنظام المناولة في القطاع العام يتجاوز الخمسين ألف عامل، بينما يزيد هذا الرقم عن حدّه في القطاع الخاص. ويبقى السؤال: لماذا هذه الشركات العالمية مثل “آديكو” و”مان باور” و”كريت” و”آرتوس” في دول أخرى تحت رقابة صارمة وقوانين تحُفظ فيها كرامة العامل، بينما تُزاول أنشطتها في تونس في ظلّ رقابة منفلتة تُركل فيها كرامة العامل؟

jeudi 17 octobre 2024

ياسين الغماري، شاعرية النص.. بنات النفس

 شاعرية النص.. بنات النفس ..ياسين الغماري

 

أنتِ الكُلُّ في كُلِّي، وأنتِ الغارقة في قلبي، أرتئي فيكِ درب اللحظة الماضية والآنية والآتية

أنتِ أقصى من أن أعشقكِ عشقًا مألوفًا، يقتضيكِ حُبًّا بقلب الكون أسره

أجمل ما في حُبّنا أنّ ليس فيه أضداد، فيه فائضُ تمام

مُصابٌ بكِ أنا حد يقيني الرّاسخ أنّي سأجدكِ يومًا، حتماً دوماً

يومٌ يليه غد، إنّي أهوي في أعمق ما في أغواركِ وكم هو جميل أن تقع في هاوية الحُب عن

فاض منسوب الشَّوق وباتَ يُرغي ويَزبدُ

منّي لا أجِدُ مهرباً، إليكِ ينمحي يُتمي

رمقتُ فيكِ زُرقة البَحر ووعيتُ فيكِ رماديّة السَّماء، هذا التجانس لا تشُوبه شائبة

أنتِ ما يكون سامقاً لا علياء حُوكمتِ به، وعُمق لا قِياس حُدّدتِ عليه،أنتِ ما أنتِ عليه أعلاه

يا حُبّي الّذي بدون مقاييس وبدون أبعاد وبدون أيّ شيئ له أن يُحدّد من أنتِ، باستثناء الحُب فيَّ مكنَته أن يأخُذَ لكِ مقاييس عشقيّة

أنتِ مُرادي، أنتِ شَأني، أنتِ عَالمي، أنتِ بَحثِي وتَفتيشي، أنتِ مَصيري وأرضي وسَمائي، أنتِ فنائي وأبديّتي

رغبتي بالإنفراد وإيّاكِ جامحة وبلا قُيود، أنا أزهدُ في البشريّة جمعاء وأرغب فيكِ

صدقاً، خراب الحياة ومُرّها سيهون كوني عطوفاً ناحيّتكِ وقابضاً بيدكِ أمدُّكِ بالقُوّة

كل ما أشعُرُ به تُجاهكِ وكل ما ألتمسه فيكِ من دفء وحنان، الجنّة بعينها، وعناقكِ، عناق الحياة الحقّة

أنتِ كفايتي وميلادي وعزائي في مرارة غُربتي

يا أمارتي الّتي أهتدى بها لكِ قلبي، تعشّقتكِ نفسي، تُبقيني في حالة صحو وتُوقظيني مُستحيلًا من صحوي بملء اللهفة

يُوميء قدري مائلًا إلى قدركِ، قد اخترقني منكِ ما يُعزّي دُنياي وأبديّتي، صببتِ في سكينتي صبّا، وكل ما يُصيبُكِ يُصيبُني.

بكِ وُلدتُ وبدوتُ في فاتحة تفتُّحي، الّذين جزموا، وحده الحُب أعمى قد كذبوا، فبالحُب أبصرتُ وأدركتُ نفسي

ورُغم خًسراني الجسيم، تكونين أنتِ مَفازي العظيم، الجانب الآخر من ظِلال الأشياء، عطائي وعطيّتي، مُفرَدي ومُفرداتي

نصبتِ لي نصيباً يُصيب. تُخامريني في أبعادي .. تعتملين في دواخلي كلهب يصعق

أسمعكِ كما لو أنّ أحدًا لا يسمعكِ، أُحبّكِ كما لو أنّ أحدًا لم يُحبّكِ،أؤمنُ بكِ، أنعتق من عقيدتي وأعتنق قلبكِ

عُمّيني بعنايتكِ، لا أقتدر منكِ نأياً، إنّي مُنضوٍ تحتَ لوائكِ، أرتكنُ إليكِ في مأمونيّة

كُوني طيّعة في رأفتكِ، كُوني سائرة باتّجاهي، ثبّتيني تحت جناحكِ،إنّ الفؤاد يتجمّر، ورجوتُ ربّاه دون رَهْبَةٍ وبملء ما أوتيتُ من مقدرة أن يُناولني مُناي، أي إيّاكِ، أن يُخلّدنا سويًّا دُون وَداع، كما أحببتُكِ دُون وَداع

دُونكِ كُنتُ في غُربةٍ، كئيباً ومُنهاراً، سادراً في ضجيجه

يا قدير أنَرْنَا معًا، لا أشاء من دُنياناَ إلّاها، فليذهب العالم خَلف الجَحيم حتّئذٍ ولن أستجلي ما وراء السُؤال كونكِ قُربي

أستضيئ بمرآكِ، أحتضنكِ ساعة أشاء

في ضوءٍ جديدٍ تلاقيْنَا بلا فِراق، ندور في فلك الحياة وسرمديّة الأبديّة، المرء دون حُب مَنزوع الرُوح

مررتِ بقلبي طائراً كقذيفة، وتلمّستِ نياطَ قلبي، انطبعتِ في مُخيّلتي إذّ ذاك، أخذتِ أعماقي برقاً عنيفاً في درب السّعادة

لا شفاء من الحُب باستثناء أن تُحبّ أعظم، أحبُّكِ حُبّاً كاملاً وتاهت فيكِ نفسي تيهاً تامّاً

أختزنكِ في دواخلي بملء الذكرى، لم أكن بادئ الأشياء في سلسلة الحُب الخاصّة بكِ، بل بالأحرى خاتمة الأشياء، كُنتُ بِكْر العشق في حياتكِ وإنّني الأخير، أنا الأخير في كل الأشياء. أنا أنسبُ الأشياء برِمّتها في مواقيتها

أتيتُكِ مُتأخّراً، أحسبُ أنّ تيهي كان سبباً، غير أنّي جئتُكِ أخيراً،وأنتِ حيواتي المُؤجّلة الّتي أبداً لم أحسبها

وللمقادير مُنحدرات تدحر بالظنون عرض الإنتظار، تُنيلُ سببًا للتفكير إلى مكيال عصياني عن طبيعة الكون

وأنا عن نفسي المُغرم بوجودكِ اليوم، أنا مُمتنٌّ أيّما إمتنان لكلمة لا،فـ”لا” القاطعة قادتني إليكِ، زيديني قُرباً، يا طُمأنينتي الدَّافئة والدَفينة، دعيني أختزنكِ، دعيني أضمّكِ، دعيني أراكِ، دعيني أُعمّر أبديًّا في دواخلكِ، دُلّيني على المَسير، ناوليني جناحكِ للاحتماء بهمن ألم مصيري ومن فواجع أقداري.

خُذيني من ضلالتي إلى هدايتكِ، اقتلعيني من بعثرتي إلى ثباتكِ،استقطبيني من رَيْبي إلى يقينكِ، اجذبيني من خوفي إلى سكينتكِ،وأحبّيني حُبًّا يربو فوق الحُبّ حُبّاً

انتميتُ فجأة إليكِ وكأنّكِ كل انتماءاتي، كما لو كُنتِ كل مُمتلكاتي،ودحضًا لواقع ما عاد يروقني، تكونين أنتِ رابطي الوحيد الّذي يشدّني.، فلا شيء يهمّني إلا نقطة تقاطعت فيها طرقنا، وها أنا ذا أهتمّ وأعنى وأُبالي وأرغب وأريد

عزائي الوحيد قُبالة ما جابهته أن تكوني بسهولة تحت وطأة حبْستي، أتشوّف بمُرادفاتي وأضدادي أن يُضيّعكَ الطريق أمامي،أنا العميق في بواطنكِ والعاشق لجمالكِ ودائم التفكير في لقياكِ

أعشقكَ مرّتين، عشق النُجوم للقمر ومُكوثها أبدًا ناحيّته

أنا الشخص الّذي لا يحب أي شخص، ها أنتِ ذا الآن كلّ الأشياء،كل ما سبق

كمّ أجهل كيف يُحبّ الآخرون، عن نفسي أحُبّكِ، أرومُ أنّي سأبقيكِ في قلبي..

ياسين الغماري يُلقي بظلال الرأسمالية في خنق عوالم الرأسمالية  ثمّة فَلْتَة في العالم، لكنّنا بَسُرنا بمعرفتها وبالتأكيد نتجاهلها تجاهلًا كام...